سمعت عن خبر وفاة زياد الرحباني بالأمس، وبالرغم من أن انبهاري بأعماله الشخصية لم يدم طويلًا بعد سن المراهقة لأسباب حياتية عادية ولا تحتاج لأن تكون متعلقة بنمو الذائقة أو الكرنج المرتبط في ذاكرتي بالقعدة في الفي مع تصرفات طفولية سابقة، إلا أنني حزنت، وتنهدت، تنهيدة الحسرة على الشخصيات التي اكتشفتها في بداية حياتي وقد أثرت في ملامح الثقافة التي عشتها وعايشتها.
أول ما خطر ببالي عندما قرأت الخبر كانت والدته نهاد، أو أمّنا فيروز، وحاولت تخيل الوجع الذي يحل بأم عمرها قرن إلا عقد وهي تودع ابنها. أتساءل بيني وبين نفسي: هل ندمت فيروز يومًا ما على المسار الذي اختارته في حياتها وارتباط الناس بصوتها وإبداعات عائلتها رغمًا عنها لأجيال طويلة؟ هل شعرت يومًا بأن هذا الامتداد لفنها، أيًا كان شعورها الشخصي نحوه، قد آذاها بسبب التطفل والتقديس المبالغ؟
أتذكر أني قرأت شيئًا مرة عن حياة الرحابنة الصعبة، واكتئاب زياد الذي ساهم بشكل ما أو بآخر في أعماله الفنية رغم صغر سنه، كما هو حال العديد من المبدعين، وتعجبت أننا كمتلقين للفن غالبًا ما نتناسى هذه الأجزاء السوداوية من قصص نجاح البشر، بل ولا تؤثر بنا إلا في سياقات نادرة، ولا تضفي لبصائرنا أي نوع من التفهم والتأمل في حقيقة الحياة الإبداعية ومعايشة معنى الفن بكل تفاصيله الإيجابية والسلبية. تمر علينا القصص السوداوية لما وراء كواليس شخصياتنا المفضلة، ونتلقاها كمجرد حقائق تصلح لفقرة "هل تعلم"، تشعرنا بقرب وهمي واستحقاق كاذب لاهتمام الأوساط والأقران.
من الممكن أن هذا هو السبب الذي جعلني أعيد اكتشاف حبي لفيروز من جديد، ومن زاوية مختلفة وأقل مثالية، بالتزامن مع استكشافي للمشاعر المحملة مع العمل في أي مجال إبداعي – الكتابة بالنسبة لي – ووجدتني بالأمس أفكر في قلق؛ كيف سيكون إحساسي عندما ترحل فيروز؟ ولماذا تبدو هذه الحقائق أقرب من أي وقت مضى، رغم إيماني بالموت والقدر طيلة حياتي؟ هل وصل الزمان الذي تخيلته بعيدًا؟
زاد هذا السؤال من عمق الشرخ في قلبي عن الزمان والمستقبل وقلقي الدائم حياله، فقد رحلت عني شخصيتان ملهمتان في حياتي الأكاديمية والخاصة مؤخرًا، وبلغت عمرًا جديدًا، بحمد الله، يجعلني أقرب للثلاثين مني إلى السابعة عشر، يوم كنت أكتب كلمات زياد التي غنتها فيروز في مذكرة بنية صغيرة لكي أحفظها وأغنيها بصوتي المضحك في المدرسة مع البنات. وكل يوم أراقب الأخبار بقلب تعوّد على ثقله الجديد من فجر السبت السابع من أكتوبر 2023، وأفكاري تتخبط بين الخوف من الهول والرجاء من قرب تحقق النبوءة الذي تخيلناها بعيدة، وكتبنا عنها مطولًا بضمائر غائبة في حصص التعبير فقط لتحصيل حاصل، وأنهر نفسي بين الفكرتين خجلًا من كوني متفرجة تقع في ذات الأخطاء التي تنتقدها؛ كيف بإمكاني الحديث عن ألم الآخرين بهذا القدر من التبلد والتلقائية، وكأن هذا الموت مسلّم به وضروري لحبكة القصة التي تناسبني وتعبيري الفني عنه؟!
أعلم أنه على أرض واقع مختلف عن واقعي، مثل أرض غزة، قد لا تعني فيروز وأغانيها شيئًا لشخص لم تفرضها عليه الصباحات الهادئة، ومشاكل المدرسة العادية، والنوستالجيا الكذابة التي تجمل كل شيء مضى، فالماضي بحد ذاته مختلف، الهواء مختلف، كيمياء الدماغ مختلفة من فرط الاختلاف في التفاعلات البشرية مع الموت المحدق من كل صوب. ولكن، بالنظر للظروف الجيوغرافيسياسية المشتركة بيننا بالمجمل كعرب، وخجلي لو كنت، بدون قصد، أُملي المزيد من التوقعات البطولية غير المنطقية على شخص غزّاوي عادي قريب من عمري، أو أن أكون أنزع عنه غطاءه الوحيد الذي يربطه بشيء عادي كفيروز وأحزانها مع الحب والخوف من الكِبر في العمر، والأماني المستحيلة لأن ترجع بنت صغيرة على سطح الجيران وتهرب وتطير مع الورق الطاير، طمأنت قلبي أن الناس في غزة غالبًا أحبوا فيروز مثلي، وللأسباب المهمة والتافهة بحذافيرها.
لا أظن أن مأساتنا الجماعية مع الزمان تختلف بشكل كبير بالرغم من اختلاف ظروفنا وحقيقة الأسى في هذا العالم، حتى لو كانت طفولتك مأساوية، وزمانك لا يشبه الأغاني التي حُسبت على جيلك، فلا بد أن تجد ما يربطك بالمعاناة الجماعية والحديث العام البايسك نفسه، لأسباب اجتماعية ونفسية وأيديولوجية وسياسية قد يطول شرحها في هذا السياق.
فعلى سبيل المثال، اقتَصّ سيف الصيف الحارق المختبئ تحت اسم الربيع الإقليمي جذور ربيع عمري أنا فقط في الحادية عشر، عندما اندلعت الثورة في ليبيا. ولهذا، ينتابني دومًا شعور ما بالحسرة على زمن تمنيت لو عشته بشكل مختلف، وأقل إيلامًا وخوفًا وحرجًا من أسباب فوضوية مخجلة وليست نبيلة وجوهرية تاريخيًا وثقافيًا وروحانيًا مثل محاربة الصهاينة.
عكفت على نفسي مبكرًا، بمباركة من الرأسمالية والمقارنة السامة التي أضع فيها نفسي بجانب ناس لن يفهموا كيف يحولك صوت الرصاص والموت العشوائي، بدون أي قصة بطولية، وانقطاع التيار والماء، لنسخة أقل إنسانية من نفسك، وجاريت الزمان حتى احترقت فيّ الرغبة والطهقة (كما نقول في لهجتنا دلالة على الاندفاع الشبابي المصحوب بأمل زائف، ولكن طاقة جبارة للتغيير)، وأظن أن هذا الجري وسيلة للتكيف مع التجارب المنسابة من زماني الضائع أمام عيني، وبالرغم من كل شيء، يبدو أنني نجحت.
فبالنسبة للعديد من حولي، أنا أسطورة وقصة نجاح مبكرة لم تلتفت للظروف، وبئر خصب للإبداع والتفوق. أجاريهم، وأتقبل مديحهم بابتسامة، ونظرة بريئة متصنعة، لأنه لا طاقة عندي في فتح أدراج قلبي حتى بيني وبين نفسي، بل حتى بيني وبين مذكراتي الشخصية أكذب وأمثل، ولو بنسبة 1%، لكي أتجنب الأسئلة المتعلقة بالقدر وما آلت إليه الحياة. طالما أعيش منعّمة ومستورة، فما الفائدة من نكز "لو" وفتح الباب للشيطان؟ كيف أخبرهم بطريقة غير دراماتيكية أن هذا البئر يتنفس بكمية أقل بكثير من توقعاتهم ومن عمره الشاب؟ كم أتمنى لو كان زياد حيًّا وقرأ هذا السطر بالذات، لكان عنده تعليق ساخر وبليد، لن يضحكني حتى تؤلمني معدتي، ولكن سيخرج من أنفي نَهفة هواء ونصف ابتسامة على الأقل، وبالمقابل سأفكر في ذاك التعليق لسنوات طويلة قبل النوم.
لا أتعاطى كميات كبيرة من الفن لهذا السبب، أرتشفه بحذر، وبكميات تشجع عليها طبيبتي (أنا في الأسبوعين الهادئين والرايقين من الشهر). تبلورت في عقلي فكرة أن إدراكي المبكر لحقيقة هذه المعاني عن الحياة، والأمل، والتوقعات، والزمان، يمكن أن يكون نعمة كي لا أضيع سنين ثمينة من عمري متخبطة، خاصة أن زماننا هذا مختلف، والتوقعات فيه مختلفة وسريعة النمو، فإن لم أنعم بنعيم الجهل مطولًا، أقله أحمي قلبي من إهدار مشاعره فيما تبقى من عمر أرجوه طويلًا في عافية. هكذا أعيش، لا يعجبني العجب، ولا الصيام في رجب، سأتذمر بعض الشيء في كل السيناريوهات الممكنة ولو اختلفت تفاصيلها. لا المنطق يعجبني، ولا العاطفة تنقذني. أتشبث بالاستمرار فحسب، أثبت قدماي في أرض الواقع، ولا أسمح لمخيلتي بالطيران بعيدًا جدًا، كي لا أجن، وفي رحمة سعة الله ورجائه أتقلب؛ يومًا أغلب قلقي فأكون عبدة شكورة، ويومًا يغلبني، فأدندن بحنق ونزقة؛ لو فقط ينساني الزمان على سطح الجيران.
Your best piece yet, wow, truly, تمنيت ما تمش المنشور
انا من لما سمعت قعدت نفكر،كيف يكون شعور الوحدة، حملت و جابت عيل، رباته و كبراته،وكبروا مع بعض و عجزوا، و سافاته يعيش ٦٩ سنة، و حضرت جنازته
An eecky feeling I imagine, whole new level of existentialism
"لا المنطق يعجبني، ولا العاطفة تنقذني. أتشبث بالاستمرار فحسب " لقد أنهز مابداخلي و لامست جروح قلبي "من رحم المعاناة يولد الأبداع " هذا ماتذكرته عند قرأت ماتذكرت رائعاً جدا 🤍